التعليم في الرقة بين مخالب النظام وأنياب الدولة الإسلامية*
مضى أكثر من عامين على آخر زيارة لمدينتي الرقة (2 - 9 أيلول/ سبتمبر 2013)، أصبحت خلالهما المدينة عَلَماً في الخارطة العالمية من باب داعش، بعد أن كان عدد لا بأس به من السوريين لا يعرف أين تقع المدينة التي تتوسط محافظة توازي مساحتها البالغة (19616 كم2) مساحة دولة الكويت، وتقترب من ضعفي مساحة لبنان.
قبل سنتين، أخذت الطائرة من اسطنبول إلى أورفة (شانلي أورفا، بالتركية)، ومنها عبر "الدلمش - ميكروباص" إلى أقجة قلعة (أكجا كالا)، وهي المقابل التركي لتل أبيض.
المسافة من أورفة إلى أقجة قلعة خمسون كيلومتراً، لكنها استغرقت ساعة ونصف في الدلمش، وكانت الطريق تزداد صعوبة ووحشة كلما اتجهنا جنوباً.
شيوخ المرحلة
سارت الأمور بسهولة على الجانب التركي من المعبر. مشيت حتى أصبحت في الجانب السوري من الحرم الحدودي، ولامست قدماي الأرض السورية بعد غياب 26 شهراً، لكنني لم أسجد لأقبل الأرض، ولم تترقرق الدموع في عيني.
أخرجني من شرودي صوت شاب أقرب إلى الطفولة، بلحية صغيرة، وشارب محفوف عنوة: "شيخ.. فوت فوت!". فهمت منه أنه لا يريد أن يرى جواز سفري، وكنت أعلم مسبقاً أنهم لا يدققون في وثائق السفر. ما فاجأني هو وصفي بـ"شيخ"؛ اعتقدت أن السبب هو لحيتي، قبل أن أكتشف لاحقاً أنهم استبدلوا كلمة "رفيق"، أو "أستاذ" بـ"شيخ".
وما إن انطلق الميكروباص باتجاه الرقة، حتى بدأت الحواجز. توقفنا على حاجزين في بلدة "عين العروس" التي لا تبعد سوى ثلاثة كيلومترات عن تل أبيض.
في الحاجز الأول، واجهنا فتى من لواء أحرار الشام "حاشا"؛ الجسد طفل، واللباس أسود، أما الوجه فيغطيه قناع لا تظهر منه سوى العينين. طلب مشاهدة بطاقاتنا الشخصية، ثم تمنى لنا الوصول بالسلامة ودخل في غرفة بيتونية مسبقة الصنع مسارعاً إلى نزع قناعه في جو شديد الحرارة وهو يولينا ظهره.
في الحاجز الثاني، صادفتنا التفاصيل نفسها، سوى أن المقنع طلب من السائق نقل راكب وإيصاله إلى الرقة والحرص على راحته، فظننا جميعاً أن الراكب على صلة بالكتيبة التي ينتمي إليها أفراد الحاجز. ولما صادف أن جلس الشاب إلى جانبي شاهدت سحجة على رسغه. كان يبدو عليه الألم، ووجهه الأسمر محتقن غضباً. كل ذلك قبل أن يخرج عن صمته في الحاجز الثالث ونعرف أنه كان موقوفاً لساعات عند "حاشا"، وأن السحجة على رسغه هي أثر "القيود" الضيقة على يديه، وأن من اعتقله هو قريب له أراد "إذلاله" وصادر له بطاقته الشخصية.
تسامح المقنَّع معه، واقتنع بروايته التي أيدها السائق، لكنه وجَّه ملاحظة متذاكية إلى شاب صغير يحمل إيصالاً من دائرة الأحوال المدنية تفيد أنه تقدم بطلب للحصول على بطاقة شخصية، قائلاً "واحد ما عندو هوية.. والثاني جايبلي إيصال من النظام"، وأغلق الباب مشيراً للسائق أن انطلق.
تلال الرقة
سارت السيارة بين التلال الكثيرة في الطريق إلى الرقة. والرقة محافظة سهلية لا جبال فيها، لكنها غنية بالتلال، والتل في علم الآثار هو مدينة، أو مسكن، غطاه التراب عبر مئات وآلاف السنين، ولذلك كثر في سنوات الثورة السورية الذين ينبشون الأرض بحثاً عن الآثار. والمفارقة أن تنظيم "داعش" اتفق مع النابشين على حصته البالغة 20% إذا وجدوا ذهباً، أو فضة، أما إذا وجدوا تماثيل، أو فخاريات، أو أختاماً، فلا شأن له بتلك الأوثان.
اكتمل نصاب الحواجز إلى ستة قبل الوصول إلى الرقة، عبر تحويلات وطرق فرعية تآكل الإسفلت الذي يغطيها، أو تركت عجلات الشاحنات الثقيلة آثارها عليها.
بعد حوالي ساعتين، لاح عمران المدينة من بعيد، وطالعتني مشاهد متناثرة لأبنية مدمرة في المدينة لا تُقارن بما حل بحمص من دمار، بينما تولى سائق التاكسي الشرح "هذه البناية دمرها صاروخ أطلقته طائرة، وتلك عبر سيارة مفخخة.. هل ترى هذه البراميل؛ إنه بترول مكرر بطريقة بدائية. أنا لا أملأ خزان وقود سيارتي الكورية إلا ببنزين نظامي". عرفت في ما بعد أنه تقاضى مني ضعف الأجرة المعتادة.
في الطريق إلى البيت، شاهدت شعارات في الشوارع تعطي فكرة غائمة عن السلطة الجديدة الحاكمة، وعن الأيديولوجيا التي يتبناها.
وكانت مدينة الرقة قد أصبحت في يد داعش منفرداً قبل أسبوعين تماماً من زيارتي لها.
انقلاب داعش
ظروف خروج الرقة من قبضة النظام، أو سقوطها في يد الكتائب الإسلامية، بسهولة، وخلال ساعتين فقط من يوم 4 آذار/ مارس 2013، لا تزال حتى بعد أكثر من عامين تثير شكوكاً.
أما وقوعها في يد داعش، وطرد أحرار الشام ولواء ثوار الرقة منها، فكان مساراً طبيعياً لتصاعد قوة تنظيم الدولة، وطبيعته الانقلابية التي لم تنسجم حتى مع المسارات المتعثرة للثورة السورية.
ورغم شدة خوف الناس من غموض "داعش"، وقلقهم إن رفعوا الصوت تجاهه من الاعتقال، أو الابتزاز، فإن أصواتاً عدة حاولت مواجهة عناصر التنظيم.
وكل من استطاع مقابلة أحد الدواعش واجه نقاشاً فاشياً يتوسل الدين. من هذه النقاشات قول أحد مشايخ المدينة الذي رافق أحد الأصدقاء للسؤال عن مصير علم الثورة الكبير الذي علقه بالأمس على إحدى اللوحات الإعلانية في المدينة. وبعد حل موضوع العلم واسترجاعه، بادر الشيخ إلى تذكير "أبو شيماء" بأخلاق النبي، وخطاب النص القرآني له "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك"، و"وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، فـ"انطعج" أبو شيماء، وبصوت أقرب إلى التهديد، قال "مو حافظين من القرآن إلا آيتين، وين آيات السيف.. الإسلام ما انتصر إلا بالسيف".
وأبو شيماء إما بدوي سوري، أو سعودي، وفق روايتين.
تحولات ديموغرافيةـ
يعيش الآن في مدينة الرقة، تحت حكم داعش، ما لا يزيد على 150 ألف نسمة (عدد سكان المدينة تجاوز 600 ألف نسمة عام 2011). بينما يشير العدد التقديري لمن لم يغادر المحافظة إلى حوالي 500 ألف نسمة من بين عدد يقارب 1.1 مليون نسمة، أي أن من نزحوا من المحافظة، أو لجأوا إلى تركيا، يقارب نصف سكان المحافظة، وأكثر من 70% من سكان المدينة.
بالطبع، هذه الأرقام تقديرية للسكان، فسجلات الأحوال المدنية ترصد الولادات والوفيات وحالات الزواج والطلاق، ولا ترصد عدد المهاجرين، بينما تستند الجمعيات الخيرية في تقديراتها على عدد المستفيدين من خدماتها قبل النزوح، أو اللجوء، وبعده. هذا مع الإشارة إلى أن نسبة جيدة ممن نزحوا من المحافظة هم من المقيمين في الرقة، لكنهم مسجلون في دوائر الأحوال المدنية في محافظاتهم، فالرقة من المحافظات الجاذبة، وفيها مقيمون تعود أصولهم إلى دير الزور، وحلب، واللاذقية، وطرطوس، وغيرها من المحافظات.
في التعليم، اعتمد تنظيم داعش على طريقة الهدم، أي القطع التام بين ما كانت المدارس تقدمه من مادة تعليمية في الفترات السابقة، وبين ما ينوي التنظيم فرضه على الناس في الفترات اللاحقة.
قام التنظيم أولاً بإغلاق المدارس، ثم أعلن أن المناهج القديمة تعبر عن فكر النظام "النصيري"، وأن كل من كان يشارك في تلك العملية كافر تجب استتابته، بل يجب استتابة كل معلم حتى لو لم يكن منتسباً لحزب البعث العربي الاشتراكي.
تمت الاستتابة، وانضم عدد من المعلمين إلى صفوف داعش، طامعين في الحظوة، أو مضطرين تحت ضغط الحاجات الاقتصادية الضاغطة بقوة، أو مقتنعين بأهداف التنظيم، فما كان من التنظيم إلا أن أرسلهم لخوض المعارك، بعد تدريب لم يتجاوز أسبوعين، تحت ضغط الحاجة لأعداد كبيرة من المقاتلين في الجبهات المفتوحة مع أعداء يحيطون به من كل الجهات.
لقب رئيس ديوان التعليم في الدولة الإسلامية "ذو القرنين"، وهو مصري صعيدي يحمل شهادة الدكتوراة في التربية.
الاسم، على كل حال، يعبر عن التناقض الصارخ بين الرعب الذي صدرته داعش للعالم، وبين سعيها لتأسيس منظومة تربوية تدَّعي الحق والخير.
فانتازية الاسم، بمصدره الأسطوري، تنسجم مع الاصطلاحات والتعابير السلفية، ناهيك عن استعمال تعابير تنتمي إلى الكلام البسيط الذي يؤمن به جمهور المسلمين في كل مكان وزمان، من نحو "الهيدروجين زائد الأكسجين يتفاعل ويتحول إلى جزيئات ماء"، لكن "بإذن الله".
نظرياً، يرى داعش في التعليم ضرورة، فهو، كـ"دولة" ناشئة، في حاجة إلى كوادر متخصصة تسيِّر أمور دواوينها (الوزارات)، وبحاجة إلى الأطباء والمهندسين والصيادلة والمعلمين.. إلخ.
غير أن هذا الإدراك النظري الصحيح في المبدأ يصطدم بـ"الضوابط الشرعية" وفق التفسير السلفي للنصوص الدينية من القرآن والسنة.
والتنظيم يفضل أن تتلقى المرأة تعليماً متوسطاً، وليس بالضرورة أن تصل إلى التعليم الجامعي، لكنه يمنع النساء من زيارة طبيب مختص بالأمراض النسائية.
على التنظيم، إذن، أن يحل هذه المشكلة ليصبح لديه طبيبات أمراض نسائية.
وهذا ينطبق على التعليم، ففي المرحلة الإعدادية والثانوية لا تعلم المرأة سوى الفتيات، ولا يعلم الرجل سوى الذكور.
ولذلك، يبقى العلم المفضل عند تنظيم داعش هو العلوم الشرعية، الذي يحتل قمة الهرم بين العلوم كلها. وعلى اعتبار أن الدولة ذات طابع ديني، أو دينية، فإن كل العلوم مشتقة من العلوم الشرعية. كما أن ضوابط ممارسة هذه العلوم يجب أن تمر من بين يدي قاض شرعي يضع للممارس لها قوانيناً يُحرَّم عليه مخالفتها مطلقاً.
داعشيات!
في آذار/ مارس 2014، ضبط عناصر من داعش طالباً كان يحمل ملخصاً لكتاب "علم الأحياء" في القسم العلمي من الصف الثالث الثانوي. كان الطالب في طريق العودة إلى بيته بعد جلسة دراسية في بيت أحد زملائه. تعرض الطالب للجلد، ثم الاستتابة، ثم خضع لدورة شرعية كي يعرف خطأه. وبعدها أُجبر والده على توقيع تعهد بعدم عودة ابنه إلى دراسة "العلوم الشركية"، حسب ارتجالات داعش.
وفي الوقت الذي انشغل فيه عناصر "ديوان الحسبة" بجلد الطالب، واستتابته، ومن ثم تحويله إلى "ديوان القضاء"، كان مختصو داعش يعرضون على شاشات كبيرة أمام الأطفال الذكور في رياض الأطفال مشاهد المعارك التي خاضها التنظيم.
وروى أحد الأصدقاء أن أحد عناصر داعش تقمص دور ممثل مسرحي في حفل أقامه للأطفال في سن الروضة في عيد الأضحى (2014). استلطف الأطفال تظارف الداعشيين عندما وزعوا، للطفلات خاصة، الحلوى والدمى القماشية المحجبة. وعندما سألت الصغيرات عن حجاب الدمية، روى لهن الداعشي نسخة معدلة من قصة "ليلى والذئب" التي تعرفها الصغيرات: "هذه ليلى.. هل تعرفن قصة ليلى والذئب؟ مشيراً إلى أن ليلى لم يأكلها الذئب لأنها تضع الحجاب".
مثل هذه القصة المرتجلة يمكن تفسيرها كاجتهاد فردي من شخص حاول أن يتذاكى على أطفال يعتقد أنهم يمكن أن يقتعنوا بالنسخة المعدلة من القصة. ويمكن سحب هذا التفسير على الإجراءات التي سمعنا بها دون أن نرى نتائجها، من عزم داعش على تأليف مناهج دراسية تتوافق مع فكره، وتأهيل معلمين يؤدون دورهم في تلقين الأطفال تلك "الاجتهادات".
مر عامان دون أن ينجز داعش شيئاً من ذلك، ولعله لن ينجز شيئاً إذا استمر الضغط عليه من جمهرة أعدائه داخل سوريا وخارجها. هذا إذا لم نقل إن أيام التنظيم باتت معدودة، في الرقة وغيرها من المدن السورية، بل ومن العراق نفسه.
في كل الأحوال، الحاجة المتنامية للجهد العسكري لن تتيح له تفريغ عناصر للقيام بمهام العملية التعليمية التي تحتاج إلى كوادر بشرية كثيرة، وإلى مستلزمات مادية ربما يفضل توجيهها للجهد العسكري.
ردود فعل الأهالي على حادثة "قصة ليلى" تراوحت بين الخوف والتقية، لكن عدداً كبيراً منهم امتنع عن إرسال أولاده وبناته الصغار إلى روضات الأطفال.
دون تعليم
قدر أصدقاء في الرقة أعداد الطلاب في المدارس، العام الماضي، بأقل من 500 طالب، يتوزعون على عشر مدارس تعمل جزئياً على مستوى المحافظة. أغلب هؤلاء الطلاب ينتمي أبوه، أو الأخ الأكبر، إلى الجهاز العسكري لداعش.
دوام هؤلاء الطلاب كيفي، لا يحاسب فيه الطالب على الغياب، وأعمارهم من 6 إلى 14 سنة، ونسبة الإناث بينهم لا تتجاوز 7%.
ليس لدى هذه المدارس مناهج تُدرِّسها للطلاب، ولذلك تتمحور الدروس حول الجهاد والجنة. كما يركزون على مسألة التبرؤ من الكفار، حتى لو كان هؤلاء أهل الطالب أنفسهم، وتبرير ذلك أن نصرة الدين أولى من درجة القرابة.
يقول طالب شارحاً ذلك: إذا كان والدي كافراً، أو مشركاً، يجب أن أقيم عليه الحد.
وفي الدروس الترفيهية، أو النشاطات اللاصفية، إن جاز التعبير، يعرض "مختصو" داعش للأطفال مقاطع فيديو عن معارك الدولة الإسلامية، والعمليات الانتحارية، ومشاهد صور الإعدام التي ينفذها التنظيم بحق "المرتدين والكفار". وهذه المقاطع هي الأخطر والأكثر تأثيراً في الأولاد.
أما الموضوعات التي يتعلمها الأولاد فهي القرآن، قراءة وحفظاً، بشكل رئيس، والحديث النبوي.
روضات الأطفال مغلقة جميعاً الآن، بعد دوام غير منتظم خلال العام الدراسي الماضي (2014 ــ 2015).
مع ذلك، يريد داعش إقناع نفسه، ومحكوميه، أنه يعمل بمنطق الدولة، من خلال إدراكه أهمية التعليم في تكوين تفكير الأطفال والشباب. لكن استنساخه لممارسات حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم في تلقين الأطفال بتلك الطريقة يذكرنا بمنظمة طلائع البعث، وستذكرنا الدورات الشرعية التي يقيمها للشباب في المرحلة الإعدادية بمنظمة اتحاد شبيبة الثورة.
داعش "يجرب" أن ينشئ منظومة تعليمية، لكنه لا يمتلك رؤية واضحة، فالتنظيم الذي فاجأ العالم بإعلانه قيام "الدولة الإسلامية"، تفاجأ بأعباء فوق طاقته في هذا الزمن القصير، خاصة في ظل تفرغه، شبه الكامل، للتوسع، أو للدفاع عن "أراضي دولته" ضد أعدائه.
وجه داعش خطابه التعليمي للأطفال والشباب في المرحلة الإعدادية، كون هؤلاء تربة بكراً لتلقي الخطاب الجديد، بينما رأى في الشباب الذين اجتازوا المرحلة الإعدادية كتلة مؤهلة للتدريس في المدارس التي ستفتتح بعد إخضاعهم لدورات شرعية.
أما عن المناهج، فستكون معظم مواد تلك المناهج دينية. كما يحق لحاملي الشهادة الإعدادية الانتساب إلى كلية الطب التي اختصرها داعش إلى أربع سنوات، وسيقبل، أيضاً، في هذه الكلية من يحملون شهادات ثانوية قديمة.
يعمل داعش، حسب أخبار شفهية، على طباعة مناهج دراسية تتضمن (العلوم الشرعية، والمواد الكونية، واللغة العربية). هذه المناهج التي كثر الحديث عنها في الفترة الأخيرة يمكن متابعة ملامحها في فيديوهات تنشر على موقع يوتيوب من وقت لآخر، لكن تلك الفيديوهات يتم حذفها بعد وقت قصير من نشرها.
ويظهر في فيديوهات عديدة معلمون يعلنون توبتهم عن مبادئ حزب البعث، وكيف أن الله هداهم بعد ضلال، وأنهم كانوا لا يفهمون مقاصد الإسلام، ولا نواقضه، إلى أن اتبعوا دورات شرعية أقنعهم فيها المحاضرون بالإسلام الصحيح.
كما تتحدث فيديوهات أخرى عن إجراءات عمومية تحضيراً لافتتاح المدارس الابتدائية والإعدادية في مدينة الميادين في دير الزور (ولاية الخير)، بعد إخضاع المعلمين لدورات شرعية يلتزمون فيها بالابتعاد عن المصطلحات الفكرية التي كرسها حكم البعث في المنظومة التعليمية، والاعتياد على الشكل الجديد من الأيديولوجيا الذي يجب تلقينه للأطفال والطلاب.
الغاية من ذلك واضحة وخبيثة في آن، فالتنظيم يدرك أهمية التعليم، ويدرك أهمية أن يبدأ من رياض الأطفال. فالأطفال لا يحتاجون لعملية غسل أدمغة.
أما مع الشباب في المرحلة الإعدادية، فسيضطر إلى غسل أدمغة الشباب الصغار ما قبل المرحلة الثانوية، مع عزمه على افتتاح عدد من المدارس الإعدادية، بعد إخضاع هؤلاء المراهقين لدورات شرعية.
وفي ما يخص الشباب في المرحلة الثانوية، ستكون عملية غسل الأدمغة في غاية الصعوبة، ولذلك قرر التنظيم تأجيل افتتاح المدارس الثانوية حتى يترفع إليها طلاب المدارس الإعدادية مغسولي الأدمغة.
الرعب وأقرانه
في الأسبوع الثالث من شهر أيار/ مايو 2015، تم تنفيذ حكم الإعدام بقاضي الأحوال الشخصية في داعش، تركي العاني، لأنه رفض تزويج أحد عناصر داعش الكبير في السن من طفلة حمصية عمرها 12 سنة كان أبوها الداعشي قُتل في وقت سابق في إحدى المعارك.
مثل هذه الحادثة الدالة تؤشر إلى ما يمكن أن يكون عليه حال التعليم، فطفلة عمرها 12 سنة (سن إتمام المرحلة الابتدائية) يرى فيها بعض فقهاء التنظيم مشروع زوجة وأم.
وفي يوم الجمعة (22 أيار/ مايو 2015) تداول أهالي الرقة خبراً نشرته داعش عن عزمها رجم طبيب مختص بالأمراض النسائية بجرم الزنا. نتحفظ عن ذكر اسم الطبيب الذي نفذ فيه حكم الرجم في نهاية شهر أيار/ مايو 2015، لكننا نعرض هنا تفاصيل الواقعة: روج إعلام داعش أنهم قبضوا على طبيب مع امرأة في الشارع قبيل صلاة الفجر. ولما ادعى الطبيب أن المرأة زوجته، طالبوه بإثبات ذلك. حاول عندها الطبيب الهرب، فلاحقوه وقبضوا عليه. وفي التحقيق، اعترفت المرأة أنها غير متزوجة، وأنهما كانا معاً في شقة. تم جلد المرأة سبعين جلدة غير مؤلمة أمام جامع الباسل (جامع النور حالياً). لماذا "سبعين جلدة غير مؤلمة"، لأن الغاية حسب "الشرع" هي التعزير، وليس الأذى الجسدي.
أطلق التنظيم سراح المرأة بعد الجلد لأنها غير محصنة.
أما الطبيب فظل موقوفاً لأيام، وفي اليوم المحدد للرجم، وفي ساعة الرجم، أمام حديقة الأطفال في الرقة، هرب الطبيب من شرطة داعش، فلاحقوه وقبضوا عليه، ليتأجل الرجم أياماً.
تم رجم الطبيب، بعدما عجز فقهاء التنظيم أنفسهم عن اختلاق فتوى للعفو عنه، حيث قيل إن تدخلات عشائرية ورشى حاولت إيجاد تبرير لاستصدار عفو عن الطبيب دون أن تتمكن من ذلك.
وفي الواقع الذي تعيشه الرقة ما ينتمي إلى المضحك المبكي، ومنها هذه القصة التي حدثت في الأسبوع الثاني من شهر أيار/ مايو 2015:
الطفل باسم العمر (10 سنوات) موقوف لدى شرطة داعش بتهمة معاناته من "داء السرقة".
يأتي عناصر شرطة داعش بباسم كل يوم ويربطونه على بوابة حديقة الأطفال في حي الفردوس بين صلاتي الظهر والعصر، وعلى صدره كرتونة مكتوب عليه اسمه وتهمته.
سرق باسم، في مكان توقيفه، بندقية كلاشينكوف (روسية)، عندما غافل الحراس. وللصدفة، كان مخزن البندقية دون طلقات.
وفي مرة ثانية، وبعد فك وثاقه عند بوابة الحديقة، استغل باسم انشغال الشرطي بالحديث مع سائق سيارة وسرق الموتوسيكل الذي كان محركه دائراً. وبعد مطاردة بالسيارة للولد لمسافة مئات الأمتار استطاع الشرطي الإمساك بباسم عند المشفى الوطني.
وفي قصة أخرى من طرائف الدوريات المكلفة بمنع سفر البنات والنساء إلى خارج المحافظة، منع عنصر من داعش امرأة من السفر مع زوجها إلى دمشق، عاداً الزوج غير مُحرَم!
أرقام ووقائع
يذكر تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) أن عدد الأطفال السوريين خارج المدرسة، في سوريا والبلاد المجاورة، وصل إلى أكثر من 2.6 مليون طفل، وأنه من بين كل خمس مدارس في سوريا هنالك مدرسة واحدة دمرت، أو تضررت، أو استخدمت لأغراض أخرى. فيما خسرت سوريا نحو 20% من أعضاء هيئة التدريس والمرشدين.
بالطبع، تنطبق الأرقام الإحصائية والمؤشرات على الرقة، بنسبة عدد سكانها إلى مجموع سكان سوريا، ونسبة عدد أطفالها إلى عدد الأطفال السوريين، كأرقام وسطية، وبانزياحات تتعدى الوسط الحسابي، كون الرقة منطقة نامية اقتصادياً، وتعليمياً، تزيد فيها أرقام النمو السكاني على المتوسط العام في سوريا، حيث تأتي في المرتبة الثالثة في عدد المواليد، بعد إدلب ودير الزور.
وعلى المنوال نفسه (المنوال هنا لغةً، وليس إحصاء)، تزداد في الرقة نسبة الطلاب في المرحلة الأساسية (من الصف الأول إلى الصف التاسع)، كما تزداد بنسبة أقل في المرحلة الثانوية، وكذلك الأمر في المعاهد والكليات.
ظلت الرقة تستقطب المعلمين والمدرسين، والمهندسين، والأطباء، بل والحرفيين، من حلاقين، ولحامين، وفلاحين.. إلخ، حتى منتصف سبعينيات القرن الماضي. هذا الاستقطاب استمر، لكن بوتيرة متراجعة في العقود التالية، وبدأ أهالي الرقة يمارسون العمل اليدوي بعد عزوف عن ذلك، كون البيئة البدوية، أو شبه البدوية، كانت ترى العمل اليدوي مهيناً في السابق. لكن الوضع التعليمي لا يزال يصنف المحافظة كمحافظة "نامية تعليمياً"، حتى بعد أن ازداد عدد خريجي الجامعات من الاختصاصات المختلفة. ولا تزال المحافظة غير مكتفية ذاتياً في التخصصات العلمية جميعاً.
وفي موضوع التعليم، خصوصاً، لا تزال الرقة تستقطب المعلمين من خريجي المعاهد والكليات، بل ومن حملة الشهادة الثانوية العامة، بسبب النقص الكبير في عدد المعلمين في المرحلة الابتدائية خاصة.
نزيف التعليم
بلغ عدد الطلاب في محافظة الرقة في المراحل ما قبل الجامعية 271330 طالباً، وفق أرقام مديرية التربية في الرقة لعام 2012.
من هؤلاء من لايزال يعيش في الرقة دون تعليم مطلقاً منذ أكثر من سنتين، وبتعليم غير منتظم لمن اختار أهله الفرار بحياتهم وحياة أطفالهم، نزوحاً، أو لجوءاً، أو هجرة.
وهنالك، أيضاً، 16973 معلماً دون عمل. ومن هاجر منهم، أو تهجر، أو نزح، يعيش في حالة اقتصادية ضنك في انتظار العودة إلى بيته وعمله.
بقي في المدينة عدد قليل من المعلمين، وانقسموا إلى ثلاث فئات، قسم انضم إلى داعش مقتنعاً بما يقوم به التنظيم، أو طامعاً في السلطة، وعدد أكبر قليلاً لا يمتلك سوى انتظار انفراج الأوضاع. أما القسم الثالث، وهو بالآلاف، فقد نزح، أو هاجر.
ممن نزح من المعلمين والمعلمات، هنالك 1914 وضعوا أنفسهم تحت تصرف مديريات التربية في محافظات دمشق، وحمص، وحماة، واللاذقية، منهم 862 معلماً ومعلمة انتقلوا إلى محافظاتهم الأصلية في اللاذقية، وطرطوس، وفي مدينة سلمية.
هؤلاء الـ862 كانوا قد نقلوا سجلاتهم المدنية إلى الرقة كي يُسمح لهم بالتقدم إلى مسابقات التعليم في الرقة. وهم على الغالب الزوج والزوجة.
وهنالك 741 معلماً التحقوا بفصائل الجيش الحر، وأوقف النظام رواتبهم.
يضاف إلى ذلك 86 معلماً ومعلمة من الأكراد الذين انتقلوا إلى المناطق التي تسيطر عليها وحدات حماية الشعب الكردية في الجزيرة السورية.
ومنذ أيلول/ سبتمبر 2014، استقطب داعش حوالي 400 معلم، وأخضعهم لدورات شرعية كي يعملوا في منظومة داعش التعليمية، لكن اشتداد المعارك في عين العرب ـ كوباني، جعل داعش يزج بهؤلاء في المعارك، فقتل وأصيب منهم عدد غير معروف بدقة.
الآثار النفسية والاقتصادية والاجتماعية
تتلخص صعوبات التعليم أمام الأطفال والشباب والمعلمين، من الجنسين، منذ نهايات 2013، في النقاط التالية:
1 - إغلاق المدارس بكل مراحلها.
2 - منع التدريس والتعليم بكل أشكاله، بما في ذلك الدروس الخصوصية.
3 - استتابة المدرسين والمعلمين.
4 - منع سفر الإناث إلى خارج المحافظة حتى برفقة أهلهن، إن كان للدراسة، أو لأي سبب كان.
5 - العقوبات الصارمة والزاجرة بحق المعلمين والطلاب ممن تكتشف داعش أنه يُعلِّم، أو يتعلَّم، وفق المناهج "البعثية الكفرية"، وفق اصطلاحات داعش.
ويمكن استنتاج النقاط الآنفة من خلال شهادات مختارة لأهالي الطلاب، وعدد من الطلاب، إضافة إلى معلمين ومدرسين.
شهادات الأهالي
يقول أبو ياسر (52 سنة)، الموظف الإداري، والمتزوج من موظفة، إنهما أنجبا ثلاثة أولاد وأربع بنات، اثنان من الأولاد طالبان في جامعة دير الزور، لكنهما انقطعا عن الدراسة بسبب الظروف الأمنية والحالة الاقتصادية المتراجعة. اثنتان من البنات في المرحلة الإعدادية، وقد توقفتا، أيضاً، عن دراستهما بسبب إغلاق داعش للمدارس. ولديهما طفل وطفلة في سن أصغر من سن الدراسة.
تحول الحالة الاقتصادية لـ"أبو ياسر" دون التفكير في الانتقال مع عائلته إلى محافظة أخرى.
الطبيب أبو فراس (55 سنة) لديه ثلاث بنات، وطفل في المرحلة الابتدائية. يقول أبو فراس: في البداية، تابعت البنات والولد الدراسة في البيت بالاستعانة بأساتذة، رغم الكلفة العالية لذلك. وعندما منعت داعش الدروس الخصوصية، أرسلت العائلة كلها إلى دمشق، وهو أمر حملني أعباء مادية إضافية بسبب غلاء إيجار البيت في دمشق.
ومنذ شهور، يُغلق أبو فراس عيادته أسبوعاً كل شهر ليزور أسرته في دمشق، في رحلة محفوفة بالمخاطر في كل مرة.
ولدى الصيدلي أبو حسين (42 سنة) ولدان، أحدهما في المرحلة الإعدادية، والآخر في المرحلة الثانوية. نقل أبو حسين عائلته الصغيرة إلى حمص لمتابعة دراسة الولدين، ويقيم الآن في الرقة وحيداً، ويُغلق صيدليته في كل مرة يسافر فيها إلى حمص لزيارة العائلة.
طبيب الأسنان أبو علا (40 سنة) لديه أربع بنات وطفلان، أربعة منهم في سن الدراسة الابتدائية والإعدادية. كان يؤمن دراسة أبنائه وبناته عن طريق الدروس الخصوصية، وبعد منع ذلك، يفكر في الانتقال مع العائلة إلى محافظة أخرى.
نقل أبو علاء (50 سنة)، وهو تاجر مواد غذائية، أبناءه الثلاثة، وبناته الأربع، وهم متدرجون بين الدراسة الإعدادية والثانوية والجامعة، إلى مدينة حلب بعد إغلاق داعش للمدارس، رغم التكلفة العالية لذلك. وهو يعيش الآن في الرقة بعيداً عن عائلته.
المزارع أبو علي (61 سنة) اشترى منزلاً في حماة، ونقل إليه إحدى زوجتيه مع أولاده وبناته، ما رتب عليه أعباء مادية كبيرة جداً، خاصة أن لديه خمس بنات وستة أولاد، منهم ابنة في المرحلة الثانوية، وثلاثة أولاد في المرحلة الإعدادية.
فقد أبو صالح (45 سنة) إحدى ساقيه بعد إصابته في قصف لطيران النظام، كما فقد في الحادثة نفسها ابنه الذي كان طالباً في الصف الثامن. أبو صالح يعمل الآن بائع خضار متجول، ولديه ثلاثة أبناء في سن الدراسة الابتدائية، ويتمنى، فقط، إعادة افتتاح مدارس الأولاد.
ويروي لنا صيدلي عمره (51 سنة)، ولديه ابنتان تدرسان في جامعة حلب، قصة رحلة عودة ابنتيه إلى الرقة بسبب موت خال البنتين. قضى الصيدلي شهراً للإعداد لعودة ابنتيه من الرقة إلى حلب كي تتابعا دراستهما في الجامعة. وبعد عدد من المحاولات الفاشلة، تمكن من ذلك، عبر تهريبهن بطرق التفافية. والرحلة التي تمتد لمئتي كيلومتر فقط، هي المسافة بين الرقة وحلب، وكانت تستغرق حوالي ساعتين ونصف، استغرقت أكثر من 18 ساعة في طريق محفوفة بالمخاطر.
شهادات المعلمين
مدرس اللغة العربية أبو عصام (41 سنة)، الذي تم ضبطه من قبل عناصر داعش بـ"الجرم المشهود"؛ جرم تدريس المناهج الكفرية. أبو عصام كان يعطي دروساً خصوصية لعدد من أبناء جيرانه في بيته، بأسعار رمزية.
أخرجه عناصر داعش إلى الشارع، وجلدوه أمام طلابه وجيرانه، ثم أخذوه إلى مقر الحسبة، وحبسوه ثلاثة أيام، وحجزوا هويته الشخصية حتى يتبع دورة شرعية لمدة 15 يوماً. وبعد أن أنهى الدورة الشرعية، باع أبو عصام بيته بنصف ثمنه، وسافر إلى تركيا بحثاً عن أي طريق للهجرة إلى أوروبا.
أبو خالد (42 سنة) مدير مدرسة، وزوجته معلمة. لديهما أربعة أبناء في المرحلتين الإعدادية والثانوية.
كل ما استطاعاه لأبنائهم متابعة دراستهم في البيت لضيق الحالة المادية.
أبو لؤي (38 سنة) مدرس لغة إنكليزية، وزوجته معلمة رياضة، ولديهما ابنتان، واحدة في الصف العاشر، والثانية في صف البكالوريا.
استطاع أبو لؤي "تهريب" ابنته الكبرى إلى مدينة السويداء، حيث تقيم خالتها، لتتقدم البنت لامتحان البكالوريا. لم ير أبو لؤي ابنته منذ خمسة أشهر كونه يلازم زوجته المريضة.
شهادات الطلاب والطالبات
الطالب في الصف الحادي عشر عبدالكريم (17 سنة) يحضر في هذه الأيام ليتقدم لامتحان لبكالوريا، على أمل أن يستطيع التقدم للامتحان في محافظة أخرى. كان عبدالكريم يحمل ملخصاً لمادة علم الأحياء (نوتة) عندما أوقفه عناصر من داعش في أحد شوارع المدينة. اقتادوه إلى مقر الحسبة، وجلدوه أربعين جلدة، ثم استدعوا والده واحتجزوه يوماً كاملاً. صادروا البطاقة الشخصية للأب والابن، حتى يلتحق الابن بدورة شرعية يتعرف من خلالها على أسباب عدم جواز دراسة "المناهج الكفرية".
أنهى عبدالكريم الدورة الشرعية دون أن يقتنع بما سمعه فيها، لكنه يصرح أمام الناس بتوبته عن جرم الدراسة خوفاً من العقوبة والجلد مرة أخرى.
أسامة (19 سنة) طالب في السنة الأولى في كلية الهندسة الزراعية في جامعة دير الزور.
أوقف عناصر داعش أسامة حين كان في طريق العودة من دير الزور إلى الرقة، على حاجز قرية "عياش"، وأخذوا منه كل الأوراق التي يحملها ومزقوها، وهي: (دفتر الخدمة العسكرية ـ البطاقة الجامعية ـ مصدقة التأجيل الدراسي).
لم يعد أسامة إلى دير الزور مرة أخرى، وخسر سنة من دراسته، رغم التكاليف والأعباء المادية التي تكبدها أهله لإيصاله إلى عتبة الدراسة الجامعية.
الطالبة في السنة الأخيرة في كلية التربية في جامعة دمشق صفاء (26 سنة) تبقى لديها اجتياز امتحان مادة وحيدة قبل التخرج.
حاولت صفاء السفر إلى دمشق مرتين دون أن تنجح في ذلك. وفي المحاولة الثالثة، تم إنزالها من الحافلة مع أبيها الذي كان يرافقها. صادر عناصر داعش بطاقتها الجامعية، وبطاقتها الشخصية، وتم جلد أبيها أربعين جلدة، بعد توقيع تعهد على نفسه، وعن ابنته، بعدم محاولة إخراج ابنته من الرقة مرة أخرى.
كان الطلاب في جامعتي دمشق وحمص: رامي (24 سنة ـ طالب في السنة الخامسة في كلية الطب في جامعة دمشق)، وأحمد (21 سنة ـ طالب في السنة الثانية في الحقوق في جامعة دمشق)، وبسام (21 سنة ـ طالب في السنة الثانية في كلية الهندسة المدنية في جامعة دمشق)، ورامز (23 سنة ـ طالب في السنة الرابعة في كلية الهندسة البترولية في جامعة حمص)، في طريق عودتهم إلى الرقة في رحلة للشركة الأهلية للنقل، عندما تم إيقاف الحافلة على حاجز مدينة الطبقة (50 كلم شمال غرب الرقة). صادر عناصر داعش البطاقات الجامعية للطلاب الأربعة، إضافة إلى بطاقات السكن الجامعي، ودفاتر الخدمة العسكرية، وتم تمزيقها جميعاً، ثم إحراقها، وإجبارهم على توقيع تعهد بعدم العودة إلى الدراسة الجامعية، ونصحوهم بالتوجه لدراسة العلوم الشرعية، بدلاً من العلوم الكفرية التي تتنافى مع الشريعة الإسلامية، حسب الشخص المسؤول عن الحاجز.
استطاعت زهرة (18 سنة) السفر إلى حلب بمرافقة والدتها للتقدم لامتحانات البكالوريا في الفرع العلمي. لكن الرحلة استغرقت عشرين ساعة محفوفة بالمخاطر، مع العلم أن المسافة هي 200 كلم فقط، ولا تستغرق من الوقت أكثر من ساعتين ونصف في الأحوال العادية.
بعد التقدم للامتحانات، والنجاح فيها، عادت زهرة إلى الرقة، وتخلت عن حلم متابعة دراستها الجامعية، بسبب مخاطر الطريق، وعدم إمكانية الإقامة في حلب ضمن ظروف أمنية واقتصادية أقل ما يقال عنها إنها صعبة.
استتابة المعلمين
في شباط/ فبراير 2015، أعلنت داعش أن على جميع المعلمين والمعلمات الحضور إلى مراكز محددة، وفي تواريخ معينة، لإعلان توبتهم عن مبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي.
في البداية، كان المعلمون مترددين، فمنهم من لم ينتسب لحزب البعث مطلقاً، ومنهم من انتسب شكلاً، ولم يكن مؤمناً بأهداف الحزب، ولم يشارك في أي نشاط حزبي. هنالك سبب آخر لتردد المعلمين في الاستجابة لنداء الاستتابة، وهو أن النظام لايزال يدفع رواتبهم، وإذا عرف النظام بأنهم "تابوا" بين يدي داعش فقد يحرمهم من هذا الراتب القليل في ظروف صعبة جداً يعيشها المعلمون الآن. وهم خائفون أيضاً من إشاعة تقول إن من لا يتوب سيكون مصيره قطع الرأس.
على كل حال، كانت نسبة المستتابين من المعلمين والمعلمات شبه كاملة، ممن لم ينزح إلى محافظة أخرى، أو يلجأ إلى تركيا، خاصة أن تبعات عدم الاستتابة هي مواجهة تهمة الردة، التي قد تصل عقوبتها إلى القتل.
تمت عملية استتابة المعلمين والمدرسين في الجوامع، والمعلمات والمدرسات في كلية الآداب.
وتم تسليم المستتابين بطاقة استتابة، ومن لا يحملها يخضع للمساءلة حسبما أعلنت داعش مسبقاً.
وتتلخص إجراءات التوبة في التوقيع على إقرار ببطلان مبادئ النظام وحزب البعث، ومناهجه وأفكاره.
قصة معلمة
حمل كتيب الاستتابة الذي وُزِّع على المعلمين المستتابين عنوان "رسالة توضيحية في بيان حكم المنظومة التعليمية في الحكومة النصيرية".
وكانت داعش أعلنت في شباط/ فبراير 2015، كما ذكرنا، أن على جميع المعلمين الحضور إلى مراكز محددة لإعلان توبتهم عن مبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي.
وأطلقت داعش إشاعة تقول إن كل من لا يذهب طائعاً لإعلان توبته سيكون مصيره قطع الرأس. أما عن الفتيات والنساء، فقالت الإشاعة إن مصير من لا تتوب منهن سيكون السبي.
وعليه، استجاب كل المعلمين والمعلمات لدعوة للاستتابة، وذهبوا إلى الأماكن المحددة في الإعلان وأعلنوا التوبة.
نعرض هنا لشرح قدمته لنا إحدى المعلمات (نحتفظ باسمها حرصاً على أمنها) حول ما حدث معها أثناء خضوعها لعملية الاستتابة في كلية التربية في الرقة. وسنقدم شهادتها دون علامات اقتباس، كوننا ننقل كلامها حرفياً.
تقول المعلمة: قبل حوالي عشرين سنة، جاء رجل إلى معهد إعداد المدرسين، وسألني عدداً من الأسئلة، ثم قال لي: صرت نصيرة في الحزب، حزب البعث العربي الاشتراكي. وأنا، إلى تاريخ هذا اليوم، لا أعرف رقمي الحزبي، ولم أحضر أي اجتماع. أكثر من ذلك، حتى الشعار الصباحي الذي يردده الطلاب والمعلمون كل صباح، لم أحضره في المدرسة، في أي يوم. على كل حال، كان كل من ينتسب لمعهد إعداد المدرسين يتم تنسيبه للحزب تلقائياً.
وأشارت المعلمة إلى أن الاستتابة شملت كل المعلمين والمدرسين، الذكور والإناث، حتى لو أثبت أحدهم أنه لم ينتسب لحزب البعث العربي الاشتراكي مطلقاً.
أما عن إجراءات الاستتابة، فقالت: وزعوا علينا كتيباً يوضح أسباب التوبة، وحكم من لم يستجب لهذه الدعوة. قمنا بملء استمارة ببيانات الهوية، وأخذوا صورة عن الهوية. صيغة الاستمارة مكتوب فيها ديباجة: أنا الموقع أدناه أعلن توبتي عن كذا وكذا، وعن العمل تحت إمرة النظام البعثي.. إلخ. ثم وقعنا على الاستمارة، وبصمنا بالإبهام.
وحسب رأي داعش، وهو ما ورد صراحة في كتيب الاستتابة، تقول المعلمة: فإن المعلمين هم الأكثر خطورة في الدولة، بل أكثر خطراً حتى من المؤسسة العسكرية، لأنهم يقومون بإنشاء جيل يزرعون فيه أفكار حزب البعث. وحتى إذا لم يكن المعلم بعثياً، فهو ينتمي لنقابة المعلمين، التي لا تنفصل عن الحزب، وتنفذ أوامر البعثيين.
تتابع المعلمة: يشرح تنظيم داعش فكرة الاستتابة في الكتيب في كون المعلمين والمعلمات كانوا يعملون تحت إمرة حاكم خارج عن الملة، لكن لا عذر للمعلمين في ذلك، فطلب الرزق، أو الخوف من الحاكم، لا يبرر العمل تحت إمرة الحاكم الكافر. ومن الواجب الشرعي إغلاق مدارس الكفر التي تنشر شعارات الإلحاد.
وبالرغم من أن كتيب الاستتابة يذكر أسماء أحزاب أخرى، مثل الحزب الشيوعي، لكن لم يُطلب من المعلمين التوبة عن مبادئ هذه الأحزاب، ربما لأن داعش لا يمتلك معلومات عن المنتسبين لهذا الحزب، أو أنها تضمر حكماً على المنتسبين له لا يتضمن الاستتابة، بل تنفيذ أحكام أشد، دون تحذير، أو دفاع، أو استتابة.
وفي الكتيب، شرح لمعنى كل كلمة من شعارات حزب البعث، وكيف أن في ذلك منازعة لحكم الله ووحدانيته في التشريع والحكم. بالإضافة إلى شرح للمعنى الشركي للعروبة والقومية، وكيف أن كل الأحزاب تدعو إلى الانتماء إلى الوطن، وليس إلى الدين، وكيف أنها تساوي بين الأديان، وهذا خطأ، لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. ويورد الكتيب نص حديث، أو آية، لشرح كل حجة.
تستدرك المعلمة أن معلمات ومعلمين ترددوا في الاستجابة لدعوة الاستتابة، لكن التنظيم هدد المعلمات اللواتي يمتنعن عن التوبة بالسبي، وليس فقط قطع الرأس، فخاف الأهالي وأجبروا بناتهم على الذهاب والخضوع للتوبة.
وتختم المعلمة شهادتها، قلت لهم: الناس غير مقتنعين بالتوبة، فقالوا إن الناس ليسوا على وعي بكفرهم.
قلت لهم: إذا كان المعلم غير بعثي أصلاً، ولا يعرف أهداف النقابة، وكان ملتزماً بإعطاء الدروس فقط، ولم ينتخب، أو يشارك في المسيرات، ولا يردد شعارات الحزب، فكيف يتهم بأنه يروج لفكر النظام، فقالوا: ما دمت ملتزمة بقوانين الدولة التي وضعها الحاكم، وتأخذين راتبك منه فيجب أن تتوبي. سألتهم: هل ستدفعون أنتم رواتبنا بدلاً من النظام؟ فلم يردوا.
بعد كل ما قلت، لم أفهم منهم شيئاً. مع ذلك، أصروا: إقرأي الكتيب، وستفهمين.
*المعلومات الوادرة في هذه المادة تستند إلى معطيات معظمها منشور في مصدرين، الأول: بحث أنجزته لمركز دراسات الجمهورية الديمقراطية بعنوان "التعليم في الرقة في عهد داعش.. الآثار المباشرة لإغلاق المدارس على مستقبل الطلاب مع وثائق"، في 92 صفحة تتضمن وثائق وجداول إحصائية، وهو منشور على الرابط:
http://drsc-sy.org/author/ali
الثاني: ريبورتاج عن زيارتي الأخيرة للرقة بعنوان: رايات سوداء كثيرة.. ربما البلاد تصير "تورا بورا"، منشور على الرابط:
http://www.almustaqbal.com/v4/Article.aspx?Type=NP&ArticleID=619286